Articles | Beiteddine 2000 | Fairuz in Concert | Specials | Contents
Tributes | Files | Interactive | Articles | Lists

السبت 12 آب

سهرات فيروز الثلاث في بيت الدين

"شـاعـرة الـصـوت" لـيـسـت غـريـمـة الـزمـن

اختـتـمـت مـهـرجـانـات بـيـت الـديـن لـيـالـيـهـا الفـنيــة بـالـعـرض الـحـدث "سـهـرة فـيـروز 2000 وزيـاد الـرحبـانـي. وفـي هـذه الـسـهـرة الـتـي ضـمـت نـحـو ثـلاثـيـن اغـنـيـة ومـقـطـوعـة موسـيـقـيـة وألـحـانـاً جـديـدة تـؤدى للـمـرة الاولـى، تـألـقـت فيـروز فـي قـدرتـهـا عـلـى الـتجـديـد والـتـواصـل. فـي حـضـور الألـوف، حـمـل صـوتـهـا عـطـيـة الـحـبّ واشـرقـت.

انتظر زياد الرحباني طويلاً قبل ان تطلق فيروز يده وتأتمنه في الاشراف على حفلاتها الغنائية وتحديد معاييرها الفنية قلباً وقالباً. بدءاً من أبسط التفاصيل، مثل اختيار الزيّ ولونه، وانتهاء بأشد الامور تعقيداً، وبالتحديد ريبرتوار الاغاني، حيث يمكن ان تمتنع فيروز عن اداء البعض منها بدرجة تفوق حماستها حيال بعضها الآخر.

في جميع اعماله الموسيقية، وفي كل الاغاني التي لحنها إما لفيروز وإما للراحل جوزف صقر وإما لآخرين، لم يفقد زياد صفة المؤلف - المخرج وكأن في كل مقطوعة وضعها بيانا يحمل علامة المخرج ويشير اليه، مثلما تكون عليه الحال في اي فيلم سينمائى. وفي هذا المعنى، كانت الحفلات الثلاث التي اختتمت بها فيروز الطبعة الاخيرة لمهرجانات بيت الدين عرضاً متكاملاً وكان زياد مخرج هذا العرض في امتياز لحناً وتوزيعاً وتنسيقاً وادارة.

يمكن تكرار الكثير من العبارات الشائعة والمتداولة منذ عقود في وصف فيروز وفي مديحها. وما جمهورها الوافد من البلدان العربية المجاورة إلا رغبة متجددة في تقدير حضورها الآسر الذي تبقى دونه كل الصفات. هكذا، يمكن استهلال الكلام مرة اخرى عن فيروز بمفردة أخرى من قاموس الالقاب التي اطلقت تعبداً لها. فمن العتمة الى النور، اطلت "جارة القمر" بثوبها الاحمر مسبوقة بمقطوعة موسيقية استهلالية مأخوذة من "مديح الظلّ العالي" (من قصيدة محمود درويش). كالنجمة بانت وكان ظهورها نوراً في وسعه جعل الحفلة رتبة خشوع لمغنية ليس كمثلها احد. لكن لا. لا يعقل الكلام عن "سهرة فيروز 2000 وزياد الرحباني"، انطلاقاً من الكلام المحنّط والتسميات التي قيلت قديماً واسقطت على فيروز. آن للمصرّين على سجن فيروز في ايقونتها وحفظها قيمة وقطعة ثمينتين في متحف الماضي، ان يغيّروا العادة. ففي امكان "الام الحزينة" ان تكون ام الفرح أيضاً وان تكون مثلما كانت وما برحت صوت الحب وهوى الشباب. ففيروز ليست غريمة هذا الزمن، وعملها مع زياد، سواء في كلماته والحانه الجديدة او في اعادة توزيعه للريبرتوار الرحباني ليس غريم ارث الرحابنة قدر ما يشهد لثراء موسيقاهم وتعددها وتنوعها وامكان تجدّدها وحفاظها على اصالتها في الزمن.

خلف فيروز وحولها، جلس خمسون عازفاً من ارمينيا وهولندا وفرنسا ولبنان وانتحى زياد مع البيانو في اقصى يسار المنصة، لكنه لم يكن هذه المرة وحيد موسيقاه. الى الوف المستمعين الذين تقاطروا الى بيت الدين ايام 4 و5 و8 آب، اثبتت فيروز وهي في ذروة تألقها انها قديرة على التجدد ومعانقة الشباب. ربّما الدلالة الاكثر تعبيراً عن عطاء فيروز في مهرجانات بيت الدين يمكن اختصارها في كلمة بسيطة وبليغة في آن واحد، وهي ان فيروز كانت كريمة في تعاونها الناجح مع زياد، وما الكرم هنا غير السمو في الحب. بعد عشرات السنين، ما زال لصوت فيروز شحنته العاطفية ورهافته الخاصة وحساسيته الذاتية. غناء فيروز هو غناء الذات في امتياز. نشوة الاستماع اليها هو استغراق في حميمياتها. هذا كان واضحاً في بداية السهرة حين ادت فيروز اغنيتها الاولى "لا انت حبيبي"، وبلغ اداؤها ذراه في اغنيتيها الجديدتين "كبيرة المزحة هاي" و"صباح ومسا".

في ادارة زياد، لم يكن لصوت فيروز جمال الغناء فحسب، بل تحول كذلك شخصية طروبة حسيّة في هذا العيد السمعي الباهر. في المقابلة الاخيرة التي اجراها معه "الملحق"، قال زياد ان نصيحته لفيروز كانت قوله لها "إن غاية المغني من الغناء هي الفرح". في بيت الدين، قاربت الموسيقى هذه الغاية، هذه الدرجة من السعادة، حيث ارتقى الجمهور الى حساسية النبض في ايقاع اغنية من طراز "اشتقتلك" او من وزن "تلفن عيّاش" أو "تنذكر ما تنعاد"، والى التماهي في روح الصورة التي تنطوي عليها اغان مثل "كيفك إنت" و"ضاق خلقي". سبحت فيروز في بحر زياد الذي تستكشف موسيقاه روحاً كلاسيكيا في اعمال الرحابنة وتحمل تحية كبيرة الى سيد درويش ("تمرق عليّ" و"اهوده اللي صار"، ولا يغيب عن ذلك كله الوجه السياسي لزياد، من اغنية "المقاومة الوطنية اللبنانية" الى مقطوعته الموسيقية الجديدة "ديار بكر" التي وضعها تحية الى المناضل الكردي عبدالله أوج ألان، وما ذلك كله أيضاً إلا سموّ آخر في الحبّ.

يصعب وصف نهاية اللقاء المؤثر مع فيروز في بيت الدين.

في حفلتها الاخيرة التي اقيمت مساء الثلثاء الفائت، ازداد الجمهور طلباً وازدادت هي كرماً، واكتفت بقول اربع كلمات: "مرسي. عقبال كل سنة". في بيت الدين ازددنا حباً. كان القمر مشعاً في السماء، وعلى الارض فيروز قبلة النظر


Copyright © 2000 An-Nahar Newspaper s.a.l. All rights reserved.