Articles | Beiteddine 2000 | Fairuz in Concert | Specials | Contents
Tributes | Files | Interactive | Articles | Lists

السبت 12 آب 2000


الياس خوري

فــيـروز الـثــانــيـة

خمسون عازفا، زياد الرحباني يجلس خلف البيانو الى يسار المسرح، قائد اوركسترا يوقّع الموسيقى على جسده النحيل، مثل عصفور اسود في فضاء ملوّن. وفيروز. بعد موسيقى الافتتاح من "مديح الظل العالي"، اطلت فيروز بفستان احمر وغنت "لا انت حبيبي". في البداية كان كل شيء مترددا، كأن فيروز تنظر الى صورتها في المرآة فترى صورة اخرى، او كأنها تائهة وسط التدفق الموسيقي الذي ينهال من كل صوب. وتدريجيا بدأت الصورة تتبلور، وبدأ الجديد رحلة ولادته من القديم. في الواقع لم تغنّ فيروز سوى ثلاث اغنيات جديدة: "تنذكر ما تنعاد" و"كبيرة المزحة هاي" و"صباح ومسا" لكنها جعلت من كل شيء جديدا، فكان المتفرجون على موعد مع ولادة فيروز الثانية.

بين المشاعر القصوى التي يطلقها الحضور الفيروزي، والقدرة  على التحليل الهادئ من اجل اكتشاف ملامح هذا الجديد، مسافة من الصعب قطعها. ففيروز تحتل حيزا خاصا في متخيل جماعي، وفي صناعة الذاكرة. لذا حين فاجأت نفسها بنفسها الجديدة، واستسلمت لنداء الاعماق، وتركت لموسيقى زياد الرحباني وكلماته ان ترحل بها الى مطارح جديدة، كانت تخوض مغامرة فيها الكثير من جذرية المغامرين وسحرهم. هبط الصوت من السماء الى الارض، وبدا نزق زياد الرحباني كأنه سفينة موسيقية تبحر الى البعيد، وتصنع حساسية جديدة ولغة جديدة.

عناصر هذه المغامرة سبق ان بدأت ترتسم في مجموعة من الاغاني كتبها زياد ولحنها: "كيفك انت"، "اشتقتلك"، "بتمرق عليي"... لكن هذه الاغاني لم تكن اكثر من تلوين على تجربة فيروز الرحبانية الطويلة، ولم تأخذ بعدها الا في حفلة بيت الدين، حيث كان كل شيء يبدأ ويصنع اوله. ان تغني فيروز "تلفن عياش" وان تجلس على الكرسي، وان تغادر المسرح وتعود اليه، وان يدخل صوت زياد في نسيج الاغنية، وان نشعر بالحزن والالم والفرح، من دون ان يمر الشعور في مصفاة الاسطورة والحلم والقداسة، فهذا يعني ان فيروز اثبتت ان الفنان يستطيع ان لا يكون سجين نفسه وماضيه، شرط ان يمتلك حساسية جديدة  نابعة من التجربة.

ما هي ملامح الجديد؟

لا شك في ان هناك تجربة موسيقية جديدة وفذة، تنقل الاغنية من مكان الى مكان، لكنني لن اتطرق الى هذا الجانب الذي لا اعرفه الا حدسا. بل سأتوقف عند ثلاثة ملامح لهذا الجديد الذي شاركت عيوننا في ولادته.

1- المدينة: لا نستطيع ان نؤطر التجربة الرحبانية -  الفيروزية في اطار مقفل. فهي تجربة غنية وكبيرة ومتعددة الملامح. لكن السمة الاساسية فيها كانت ريفيتها. انها تجربة القرية بسذاجتها وجماليتها وتركيبها وتسامحها وذكرياتها. لقد صنع الاخوان رحباني من الريف  حكاية رمزية كاملة، وبنوا لها عمارة من الشعر والموسيقى. فكان الشعر امتدادا للتجربة الرمزية في الشعر اللبناني (ميشال طراد وسعيد عقل)، وكانت الموسيقى تغرف من الفولكلور وتبحث عن الحداثة، وكانت فيروز رمزا لابنة القرية، التي ترث البراءة.

مع زياد الرحباني، انتقلت فيروز من الريف الى المدينة، من دون ان تقطع مع الريف. جلبته معها وتركته يصطدم بالمدينة، ودخلت في حساسية مدينية جديدة، تجعلك تشعر ان العلاقات المدينية المعيشة تشكل عصب التجربة. اننا

امام مدينة تنطق بكل تناقضاتها، وامام امرأة تعيش هذه التناقضات وتجسدها، وتتخلى عن زمن الذكريات من دون ان تتخلى عن ذاكرتها.

2- التجربة: لا ادري هل تقصّد مخرج حفلات فيروز في بعلبك منذ عامين ذلك، ام جاء الامر عفوا؟ يومها اطلت فيروز من الاعلى بالابيض، لتغني "بعلبك"، فبدت صورتها تشبه "سيدة حريصا"، والتصقت المغنية باسطورتها. هذه الصورة الاسطورية تقدم حكاية تُقرأ من نهايتها، وتجربة تستعيض عن الاشياء بالكلمات وعن المشاعر بالصور وعن الحاضر بالذكريات.

هذه الصورة الاسطورية كانت وليدة مرحلة امتزج فيها رخام سعيد عقل بشعرية جورج شحاده، وقامت رمزية الحكايات باستبدال الواقع المعيش بواقع استيهامي. وكان ذلك جميلا وساحرا وجديدا، يمزج الرومنسية بالرموز، والحقيقة بالخيال، ويقدم حساسية جديدة تقف على مشارف التجربة.

في بيت الدين انقلب الموقف رأسا على عقب. بدل ان تتحول الاسطورة حقيقة، انتقلت الحقيقة لتصنع حكايتها. بدل ان تطل علينا القداسة الصافية اطلت علينا التجربة الانسانية، بكل ما فيها من تناقضات. لم يعد الصوت الجميل والساحر يأتي من خلف غيوم الفصاحة و/او من خلف الرموز الكبيرة و/او من خلف جبال اللغة والشعر، بل جاء الصوت عاريا، يتلون بالمشاعر،  ويروي تجربة علاقة، ويقدم فيروز في صيغة امرأة تشبه حبيباتنا. لا تقول "تعا ولا تجي" بل "اشتقتلك". لا ترفض العتاب بل تعاتب. لا تبحث عن صورة بل عن حكاية. هذا الانتقال من الاسطورة  الى الحكاية، لا يعني ان الاسطورة اندثرت، بل يعني ان فيروز تصنع اسطورة جديدة.

3- الشعر - الكلام: تنتقل الاغنية من الشعر الصافي الى الكلام اليومي الذي يتحول شعرا، اي يعود الشعر الى الشعور، يستقي منه الكلمات والمواقف والايقاع. ولعل اغنية "صباح ومسا" هي التجسيد المتكامل لمعنى العلاقة بين الكلام العادي والشعر الجميل. في تلك اللحظات، حين صمتت الاوركسترا ووقفت فيروز وحدها امام البيانو وغنت عن الحب والاسى، كانت تلخص حكايتها بلحظات يمتزج فيها الصدق باللعب، والحب بالمحبوب، والصوت بايقاعات الطبيعة والحياة.

الكلام البسيط المباشر المعبّر، يلخص مدينية التجربة الجديدة من جهة، وابتعادها عن الاسطورية من جهة ثانية، وولادة حساسية فنية معاصرة، سبق لزياد الرحباني  ان رسم ملامحها في اغانيه مع جوزف صقر، لكنها هنا مع الصوت الفيروزي تُدخل الحسي في النقاء، واليومي في الخيال، والعادي في المفاجئ.

كتبتُ عن كل شيء ولم اكتب شيئا. كان يجب ان ابدأ بشكر فيروز وزياد لأنهما صنعا لنا لحظة فرح نادرة، او كان يجب ان اقارن بين ما صنعه زياد لفيروز وما صنعه عبد الوهاب لام كلثوم، من اجل ان نكتشف حدود ما فعله الثاني وشكليته في مقابل  جذرية ما قام به الاول الذي افتتح تجربة ثانية، ولم يكتف بالتنويع على التجربة الاولى. كان يجب ان اكتب عن المشاعر التي تدفقت والنور الذي سكبته الموسيقى، وجمالية الاوركتسرا التي يقودها رجل يبدو راكبا حصان الريح.

لم اكتب شيئا، لا لأنني تحت انفعال المفاجأة بالجديد فقط، بل لأن الكتابة عن لحظة فنية في هذا الزخم لا تقل صعوبة عن الكتابة لحظة الانفعال.


Copyright © 2000 An-Nahar Newspaper s.a.l. All rights reserved.