Articles | Beiteddine 2000 | Fairuz in Concert | Specials | Contents
Tributes | Files | Interactive | Articles | Lists

 

 

2000/08/08

logo.jpg (5438 bytes)

 

 

culture




عودة الرحباني الضال وحفل التسليم العائلي

بيضون عباس
كانت الليلة الثالثة كالليلتين الأوليين بل وأكثر. الطقوس ذاتها: نثر الزهور وإشعال مئات القداحات، أما الزيادة ففي وقوف الجمع كله، بعديده الخمسة آلاف، مصفقا صاخبا في حال من انخطاف وتوقيع بالأيدي والأصوات. لحظة يتماهى فيها الجمهور والمغنية ويتحول فيها صوت المغنية وهي تعيد <<نسّم علينا الهوى>> الى وتر جماعي يحول الخمسة آلاف الى طاقة ونبض.
كانت الليلة الثالثة كالليلتين الأوليين نجاحا كبيرا. لكن هل يستحق أمر كهذا أن نتحدث عنه. ألا يلاقي كاظم الساهر وهاني شاكر وحتى راغب علامة احتفاء مماثلا. أليس إشعال القداحات ونثر الزهور والوقوف مع التوقيع بالأيدي والأصوات، أليست هذه طقوسا جرى تأسيسها في حفلات مطربي الموجة الأخيرة. ألا يكفي أن يكون فيروز وزياد أو أحدهما ليستحق ذلك احتفاء مماثلا. لندع هذا الأمر جانبا، فليس معيارا ولا استثنائيا. ليس هناك أكثر هوائية من استقبال المطربين من جمهور حضر ليطرب وليحتفل وليصعّد متعته، بما يسمع، الى حد الرقص والانخطاف.
لندع الاحتفال جانبا، فيروز هي الرقم واحد في الغناء اللبناني، وزياد هو اللبناني رقم واحد في أي استفتاء، وليس مستصعبا إثارة جمهور كهذا إلى حد الجنون ما دام حاضرا لذلك وجاهزا له. لندع هذا الأمر جانبا فهو ثانوي وليست هنا المسألة.
فن حقبة
ثمة الكثير ليقال عن فيروز وتجربة الرحابنة وزياد، ولسنا بحاجة الى كلام جزاف عن الثلاثة فهذه واحدة من المرات القليلة التي لا تسود فيها الأكذوبة اللبنانية. لا أشك في <<عبقرية>> عاصي الرحباني التي تسلسلت منه الى زياد ولا في فرادة الغناء الفيروزي. لكن الغناء الفيروزي وهو بيت القصيد هنا هو جماع شعر وغناء. نقلت فيروز بغناء بعيد قريب، حميم وخيالي، شاعري وفوري، حلمي ويومي، واعد وآني.. نقلت شعرا يجمع كل هذه الصفة، أي شعرا يتجاوز الصحراء الغرامية التي يداوم فيها الغناء العربي، صحراء التوسل والهجر والخيانة والإهمال وسوء الفهم، وينتقل إلى عالم مفعم بالطبيعة والصور، والذكريات. كان هذا العالم مباشرا لم تفترسه بلاغة مسبقة، حقيقيا مليئا بالصلات واللحظات، مطابقا خارجا من لهفة وحاجة ونداء داخلي، حميما خصوصيا، شاعريا وحساسا بحيث استحال الى نوع من حلم متكامل وحساسية جديدة تجاه العالم والأشياء، وحياة من مخيلة وحس وحقيقة. لنقل ان غناء فيروز لأشعار الرحابنة (مع غيرهم) قدم للسامع العربي المثقف لغة حية جديدة لنفسه وآفاقه.
كان غناء فيروز لذلك، وأكثر من أي غناء آخر، لغة حقبة. مس هذا الغناء اللبناني النخب المثقفة اللبنانية العريبة التي رأت فيه مثالا غنائيا عن تعبير حر وحميم وموّار، وحساسية جديدة. وإذا قلنا إنه غناء حقبة فلأن الحقبة كانت على نحو ما هكذا. حقبة وعود كبرى وإحساس مبكر ومسبق بانتكاسها. كما أو بالأحرى حقبة مطالب كبرى وشعور مبكر ومأساوي بشبه استحالتها.
لا أعرف كيف يفهم زياد تجربة الرحابنة الأولى، لكن تقديمه لها، على النحو الذي تم في حفل بيت الدين، لا يوحي البتة بأن هذا وعيه لها. اختار زياد من أغاني أبويه ما لا قيمة له من هذه الناحية، أي ما يفتقر الى كثافة شعر وكثافة معنى وكثافة إحساس. ما اختاره في الغالب فولكلوري أو راقص. هذا غناء لا وزن كبيرا فيه للكلام والشعر. فالمشاهد قلما يصيخ هنا لكلام محمول على سرعة الايقاع وتكراره ودورانه <<شالك رفرف>> <<تتلج الدني>> <<نسّم علينا الهوى>> <<يا مهيرة العلالي>> <<يا شاويش الكركون>>، أغان ليست كلها من عيون الغناء الرحباني، لكنه اختارها مع ذلك، لأنه طلب الإيقاع وحده ورمى بالشعر والمعنى. في الحقيقة طلب أبسط إيقاع وأقل معنى. فالتجربة الرحبانية كما تكلمنا لتونا عنها، أي التجربة التي كانت عنوان حساسية جديدة لدى النخبة العربية يومذاك، لا تعنيه كثيرا. ما استخلصه زياد من هذه التجربة هزيل ويكاد يكون شكليا وبحت تقني. بل هو اختار من بينها ألحانا مجهولة أحياها الرحابنة. لم يفرق كثيرا في هذه التجربة بين ما هو مجلوب موروث وبين ما هو مصنوع مبتكر، فالأرجح أن هذه التجربة كلها بالنسبة له فولكلور فحسب. لنقل ان مزاج زياد الرحباني لا يطيق كثافة التجربة الرحبانية ولا يحتمل بلاغتها، ليس لديه الصبر على ثرائها الشعري ولا حتى الموسيقي. انه يفضّل أن يختصرها وينتهي منها في جملة واحدة، في عبارة واحدة وإيقاع واحد. وليكن أي لحن وأي أغنية، ليكن حتى <<يا شاويش الكركون>>، فهكذا لا يبقى من التجربة سوى خلاصة شكلية. معذور زياد الرحباني فهذا عالم نثر لا قبل لنا فيه بالشعر القوي. لكن الرحابنة انتبهوا وربما قبل ان يولد زياد الى جمال وحرارة العبارة الشفوية والى طراوة وجمال المشاعر الخام. ما من قصيدة للرحابنة مهما ابتعدت في الخيال لا تملك قدرا من بساطة وقرب. ولم يكن في وسع الأغنية الفيروزية أن تعلم الخيال وتعلم الحلم لولا ذلك. يمكن لزياد طبعا أن يكون أكثر يومية وعادية. لكن الرحابنة عرفوا بحق النقطة التي تلتقي فيها الحقيقة بالخيال، ولغة الفم بلغة القلب. ليس في هذا مبالغة. زياد الرحباني شاعر لغة عارية. لكنه شاعر حين يريد وقوّال حين يريد ونظّام فحسب حين يريد. الأرجح ان هذا محكوم بمزاج لا يمكن ان يغدو معيارا ولا مثالا. لكن قراءة الآخرين ولو كانوا آباء لا يصح أن تكون حذفا وتلخيصا الى هذا الحد. أحسب أن عارفي الرحابنة، والعارفين عامة لا يصح عندهم ان تتلخص تجربة الرحابنة في مزحة مثل <<يا شاويش الكركون>>، وعند الرحابنة منها الكثير لكن في سياق عمل كان يعي تماما انبناءه من لحظات متفاوتة، وحاجته الى استراحات داخلية ومزحات ووقفات خفيفة.
محو الأثر
بخلاف أبناء بول غيراغوسيان الذين تفرغوا تقريبا لتكريم أبيهم، يبدو زياد الرحباني ابنا عاقا. لكن الفارق ليس كبيرا. فالأبناء الذين لا يكفون عن الاعتذار من آبائهم والأبناء الذين لا يتوقفون عن مناكفة آبائهم هم جميعا أبناء خالدون، وقد كُتب عليهم أن يبقوا أبناء وأن لا يشبوا عن الأبناء. لست نفسانيا ولا المجال مجال تحليل نفسي لكنني أشعر بأن هذه الصلة بالأب، لأمر ما، من الإلحاحات العميقة على زياد الرحباني، وانه في التردد بين الاعتذار لأبيه ولومه، لا يستطيع أن يبتعد كثيرا ويبقى دائما قريبا من البداية، بل من البدايات.
لست نفسانيا لكنني أفهم أن ثمة حاجات متضاربة في أن يلخص الواحد أباه كما فعل زياد الرحباني. ألسنا نحتاج الى تلخيص نص وربما جمعه في كلمة ليمكننا حفظه، وربما تبديده. أليس في التبسيط والتلخيص محاولة توضيح هذا الشيء المركب المتناقض الذي هو الأبوة والأب، ثم أليس هذا لازماً للتخطي وربما للخروج. في التبسيط في الواقع تصنيم بقدر ما فيه تضييع. الأرجح أننا لو عدنا إلى حفل بيت الدين لوجدنا أن زياد الرحباني يحول التراث الرحباني خفيفا ربما ليسهل حمله عليه. إنه يحوله الى شكل، إلى إيقاع بسيط، فهكذا هو الطقس وهكذا بالتأكيد هو العبث، ولا نعرف إذا كان زياد يعبث بتراث أبيه أو يتعبد له. الأغلب أنه شيء من كل هذا، والأغلب انه يغالب رغبات شتى متعارضة ومتناقضة. فأن يتلخص الرحابنة في أعمال ك<<شاويش الكركون>> و<<يا مهيرة العلالي>> أو <<بتتلج الدني، بتشمس الدني>>، وأن تتخذ هذه الأغاني دلالة رمزية، انها الأب الذي يتحدر الى الابن.. أن يتلخص التراث الرحباني في تنغيمات فاقدة المعنى تقريبا، يعني ان المعنى الرحباني هو ما يسعى زياد، واعيا أو غير واع، الى تجاوزه، وربما إلى إلغائه.
لا أعرف الزاوية التي اختار منها زياد ما اختار، إنها محيرة. هل نقول إن زياد اختار من أعمال الرحابنة ما يبشر بزياد، أي أبسط عبارة وأبسط إيقاع. ليس هذا تماما فزياد برغم توخيه عبارة بسيطة وأحيانا وليس دائما لحنا بسيطا، إلا أن أغنيته أغنية معنى. أي انها في الغالب حكاية ساخرة ومفارقة وعلاقة متباينة، وليس في اختيار بحت الإيقاعي من أغاني الأبوين إلا تلك الدلالة الرمزية لرفض الأبوين معنى وفحوى. المعنى يبدأ من الابن إذاً، ثم ان في تفادي أغاني المعنى نوعا من محو الأثر. ففي أغاني الرحابنة ما يوحي بأن زياد لم يبدأ من الصفر وأنه وريث بكل المعاني. في أغاني الرحابنة، بعضها على الأقل، لغة خام وان مشغولة، في أغاني ك<<تعا ولا تجي>> و<<مشوار>> و<<اسهار بعد اسهار>>... كل المفارقات التي تحولت في أغاني زياد الى لغة فجة وعارية. وفي عدد من أغاني الرحابنة التحريض والنقد اللذان وجدناهما أكثر مباشرة في أغاني زياد. لم يبدأ زياد المعنى فلماذا سعى إلى أن يمحوه.
ما إن غنت فيروز <<نسّم علينا الهوا>> وهي أيضا أغنية بحت إيقاعية حتى عرت الجمهور سكرة حقيقية، فما بالك لو وقفت فيروز وغنت عشرين أغنية من ريبرتوارها، قديمها وجديدها، من تلك العالقة بشرايين الذاكرة. ماذا لو حصل ذلك. أكان بدا التراث الرحباني مجرد شهادة للابن. أكان بدا عاصي مجرد شاهد كما بدت نسبيا فيروز في حفل في الواقع هو حفل تسليم وتتويج (دولة الرحابنة الثانية على حد الزميلة ضحى شمس). هل يمكننا أن نعفي زياد من سوء النية، عن الرغبة في أن يكون استذكار الرحابنة نوعا من النسيان والتغييب، والتمهيد للابن الذي سيجلس في الزاوية البعيدة، ومنها يقود المايسترو والحفل ويبسط ظله على الأم. هل يمكننا أن نعفي زياد من سوء النية والقصد الواعي لمعاملة تراث الرحابنة كشيء من الماضي، كمجرد فولكلور، مجرد إيقاع.
لكن زياد مع ذلك لن يستطيع أن يضبط الى النهاية الأمور، فليس التراث الرحباني مما يمكن تماما تلخيصه ومواراته. يبدأ الكاتالوغ بكلمة لأنسي الحاج تقول عن صوت فيروز بأنه <<يطهّر الروح والحواس من شوائب الحياة اليومية ومن آثام البشاعات الموروثة>>، وهذه مقدمة مفارقة لعمل زياد الرحباني الذي يزعم انه مصنوع بالضبط من شوائب الحياة اليومية. ليس التناقض هنا فحسب وليس اختتام الحفل الهستيري ب<<نسّم علينا الهوا>> هو وحده الذي يشكك قليلا أو كثيرا في نجاح اللعبة. عمل زياد نفسه يفعل ذلك. غنت فيروز <<عندي ثقة فيك>> وفي هذه الأغنية الكثير من لغة (الولا ولا شي) الزيادية، أي اللغة التي هي <<نظم>> لمحاججة هذيانية. لكن أغاني زياد الأخرى كانت تستند الى <<تسريبات>> رحبانية، إيقاع رحباني ينكسر بقدر من الرتابة والضبط، جمل رحبانية سرعان ما تدخل في عبارات أكثر عادية، لحن رحباني سرعان ما ينكسر في خلافه. لنقل ان زياد ينتصر على أهله في ما يبدو أنه يتورط أكثر فيهم. بل يبدو ان الفتى الذي غادر البيت في الخامسة عشرة لم يُشفَ تماما من هذا الخروج، أنه لا يزال دائما على العتبة، وما لم يتجاوز تماما هذا الشقاق فإنه لن يقدر على أن يتخطى بداياته الكثيرة.
الحق ان هذه البدايات هي سمة عمل زياد. ومن سمع موسيقاه تلك يجد نفسه أمام بدايات. ومن سمع أغانيه يجد نفسه أمام بدايات. فثمة هناك من يبقيه قريبا ما أمكن من الباب.
احتكار فيروز
لم تخسر فيروز بالتأكيد حين غنت لزياد. فزياد الذي قدم لها ذراعه ليست عالة عليها. انه الرقم واحد عند شبان لبنان. ثم انها أضافت بالتأكيد الى ريبرتوارها رائعة ك<<صباح ومسا>> وأغنية جميلة وخاصة جدا ك<<ضاق خلقي>>، لكنني لا أفهم لماذا يتم احتكارها دائما: مرة لتخريف وطني كما حصل لها في بعلبك، ومرة لمغامرة مختلفة كما حصل لها في بيت الدين. لقد أشعلت الجمهور بواحدة من أغاني الذاكرة فلماذا لا تنطلق بعشرين أغنية من تلك التي أسست عصرا آخر للغناء العربي. لماذا لا تختبر مرة ثانية <<تعا ولا تجي>> <<ما في حدا>> <<مشوار>> <<يا ميت مسا>> <<بكتب اسمك يا حبيبي>> <<اسهار>>... الخ.
أكتب عشوائيا أسماء أغنيات والأرجح انني لو فكرت قليلا لما صعب عليّ أن أجد قائمة كاملة. لست على كل حال خبيرا بفيروز، لكنّ فضل حفل بيت الدين، وهو ليس قليلا، انه جعل أمثالي ينتبهون الى ان الحاجة لفيروز لا تزال تجديد فيروز! وهل كان الغناء الفيروزي واحدا في يوم. ألسنا نجد في الربيرتوار الرحباني أصنافا وأنواعا شتى. كانت <<صباح ومسا>> آسرة حقا، ولهذا السبب فكرت ان أغنية ك<<تعا ولا تجي>> لا يزال لها مدى ومحل، وان ثمة ما هو حقيقي في صوت فيروز وغنائها، ولم يمر عليه الزمن، ولم تخسر فيروز مع زياد، وقد نجحا معا بالتأكيد، لكنه نجاح لا يخلق عصرا جديدا لفيروز.
فمن المقلق ان يكون تجديد فيروز في جعلها أقل مدى صوتيا أو أكثر رتابة. ومن المقلق ان نجعلها مرة ثانية عرضة للتجربة. لقد سلّفت تراثا عريضا متعدد الأبواب والمخارج واسع المدى، تستطيع أن تنوع داخله وعليه وأن تتفنن فيه الى ما شاءت. لكن القلق الأكبر هو على عمل زياد المتردد أساسا، والمتضارب أحيانا، والخوف هو أن يزداد تردده وتضاربه.
وعود زياد
لنتكلم عن زياد، بوصفه سليلا كفؤا للسلالة الرحبانية، بالاحترام الذي يستحقه. لم يكن عاصي الرحباني أكذوبة في بلد خصب بالأكاذيب ولا زياد الرحباني أكذوبة. عاصي بدون مبالغة عبقري وكذلك زياد. فهذا الرجل الذي لم يكمل مدرسته ولا دراسته الموسيقية، موسيقي ومؤلف ومسرحي وشاعر وممثل بامتياز، وأظن انه كل ذلك من دون جهد كبير. انه كل ذلك بموهبة متفجرة وغير عادية. وإذا كان الرحابنة معلمي مرحلة في الغناء فإننا في صحراء الموسيقى العربية اليوم لا نجد أملا سوى زياد الرحباني.
زياد هو الوعد بأغنية هي مجددا ذات معنى وذات موضوع. أغنية تعيد من جديد صياغة الشفوي والفولكلوري والأدبي في عبارة مباشرة ومطابقة وجسدية. الواضح ان زياد وحده ذا تطلب كهذا وهو تطلب كبير بالطبع. وقد فعل في سبيله كثيرا أو قليلا ثم لكن ما فعله متناثر وبدايات. ما فعله محصور في تجريبيته ونقديته ولم يستقل بعد تماما بنفسه. ثمة بالتأكيد بعض ما نحبه كثيرا وما نواصل حبه <<ع هدير البوسطة، تلفن عياش>> مثلا، وهذه بدايات نأمل أن يبني عليها. غير ان <<صباح ومسا>> على جمالها الآسر، من هذه الناحية، خطوة الى الوراء. التسوية مع التراث الرحباني وإن كانت ربحا عليه، إلا أن سؤال الأغنية العربية لم يعد هنا، ومهما ربح زياد الرحباني على تراث أهله، فإن هذا قد يكون نكوصا في مجمل عمله ومشروعه الخاص.
موسيقى زياد التي سمعناها مجملة في الحفل ترينا كم أن زياد لا يغادر بداياته، فثمة هنا أيضا هذه الفوضى والتنوع المجاني الذي يسم أعمال موسيقيينا، وإذا كنا أحببنا كثيرا موسيقى <<تلفن عيلش>> و<<ع هدير البوسطة>>، فإن قطعا أخرى بدت غالبا بلا طابع. البدايات هذه تحتاج الى جهد والى مثابرة، ولست أحسب ان في <<تجديد>> التراث الرحباني ما يخدم مشروعا كهذا. بل لا أحسب أن تجديد فيروز بالمعنى التاريخي مهمة ذات أفق.
زياد الرحباني الآن غالبا في أواسط أربعينياته. لم يعد فتى الفن المدلل، سيحبه الناس كثيرا في كل ما يعمله، وقد أحبوه كثيرا وهو يهبط ب<<سفيرتنا الى النجوم>> الى الأرض. ستحبه فيروز وهي تراه عقد لها مع المستقبل، لكن الأمر في نهاية الأمر أقل من مشروع وأقل من مغامرة وأقل من مستقبل موسيقي. إذا أحب زياد أن يبقى وعدا وأن يبقى فتى مدللاً فسيحصل على ذلك، لكن الأكيد أن الزمن لا ينتظر، وستأتي اللحظة التي لا تكفي فيها الوعود.

©2000 جريدة السفير