Articles | Articles | Contents
Tributes | Files | Interactive | Lists | Special

This article appears in the 'About The Lebanese Arabic Music and The Musical Rahbani Theater' By Nizar Morrowa.



بمثابة تقديم
المسرح الغنائي (الرحباني) في لبنان

هذا المقال، عن المسرح الغنائي الرحباني، كُتب في العام 1966، حيث صاغ الكاتب أحكامه وملاحظاته على عدد من المسرحيات الرحبانية المنجزة حتى ذلك العام: ("موسم العز": 1960 - "جسر القمر" 1962 - "الليل والقنديل": 1963 - "بيّاع الخواتم": 1964).. أي قبل أن توصّل الرحابنة إلى المسرحيات الغنائية المدينيّة، والتكوينات الأكثر توازناً وتكاملاً لمسرح غنائي لبناني متميّز شكّل إضافة لها خصوصيّتها إلى هذا الفن في البلاد العربية والعالم - فرأينا أن يكون هذا المقال بمثابة مقدمة عامة لهذا القسم الذي يضم مقالات نزار عن المسرح الغنائي الرحباني - المحرر

ما سنقدمه في هذا المقال حديث سريع ومركز بعيد عن التكلف، وذلك لسببين: أولهما أنني أود أن أتجنّب حذلقات الاختصاص والنظريات جهد الإمكان. وثانيهما صعوبة الموضوع الناتجة عن سنّ المسرح الغنائي الصغيرة، وعن تشابك العوامل الموضوعية التي أثّرت في ولادة هذا الشكل الفني الأصيل في لبنان من أشكال المسرح الغنائي. فتسع سنوات فقط على هذه الولادة لا تسمح بمحاولة تقييم جادة معمّقة للمسرح الغنائي في بلادنا. وإنه لمن المدهش حقاً أن تتوطد أركان المسرح الغنائي قبل فنون المسرح الأخرى فنياً وشعبياً، وأن يزحف الجمهور اللبناني بعشرات الألوف إلى بعلبك والأرز ويغرها من المناطق، بينما نرى المشتغلين بالمسرح ما يزالون يتناقشون حول الجمهور المسرحي وفي كيفية توسيعه وكيفية جعل المسرح فناً يستمتع به الجميع.
إنَّ سنّ المسرح الغنائي لا تزيد على سنوات تسع، وهي أقل بقليل من عمر مهرجان بعلبك الدولي. والحق أن لمهرجان بعلبك فضلاً كبيراً على ولادة وتنشئة المسرح الغنائي، وهو دليل حاسم على أهمية مساهمة الدولة في الأعمال الفنية الخارجة عن نطاق الجهد الفردي. ومن الملاحظ أن جميع المسرحيات الغنائية المعروفة إطلاقاً، إنما نُفّذت بمساعدة "لجنة مهرجانات بعلبك" أو إدارة "معرض دمشق الدولي". رغم أنها ضئيلة جداً لا تتعدى الشكل المالي، تاركة للفنان أن يحل القضايا الإدارية والأوركسترالية البالغة الحساسية. ورغم الصعوبات المعقدة والمتنوعة التي واجهت المسرح الغنائي لدى نشأته، فقد كان شعور الفنان بالمسؤولية الفنية تجاه مستقبل الموسيقى وتجاه جمهورها عاملاً هاماً في التغلب على تلك الصعوبات، وفي إيجاد حلول ناجحة لمختلف القضايا الفنية، وبذلك استطاع إيجاد شكل فني واضح الحدود، أصيل لا ضمن حدود لبنان بل وعلى المستوى العالمي.
ومن واجبي أن أشير إلى أنني سأدرس مسرح الأخوين رحباني فقط، لأنني اعتبره المسرح الغنائي الوحيد في لبنان. ورغم ظهور عدد آخر من الأعمال الغنائية، إلا أنها ما زالت غير جديرة بالدراسة والمقارنة بالمسرح الرحباني. وإذا ما قلت المسرح الغنائي، فأقصد الرحباني على وجه التحديد.
إن عدد المسرحيات الغنائية - (حتى عام كتابة المقال 1966) - ما يزال قليلاً، وبالضبط أقلّ من عشر مسرحيات. غير أن كل واحدة منها - بشكل عام - تشكل مرحلة هامة من تطور المسرح الغنائي. ومسرحيات الأخوين رحباني - بشكل خاص - هي التي تقدم لنا هذا الانطباع المتفائل بتقدم المسرح الغنائي ونضوجه النسبي. ويمكننا - بشيء من التساهل وبثقة معقولة - أن نقرر وجود مسرح غنائي لبناني مستوفٍ لكثير من الشروط الفنية الضرورية، ومحبوب من جمهور واسع متنوّع الميول والثقافات.
ولكن يجدر بنا أن نتساءل: هل ولد المسرح الغنائي من العدم ودون أية سوابق وظواهر فنية معينة؟ هذا بالطبع غير معقول ومناف لسنَّة التطور. وفي رأيي أنه يمكن التحدث عن الينابيع الظاهرة التالية: الأول هو المسرحيات الإذاعية الملحّنة والاسكتشات الغنائية التي قدمها - بشكل خاص - الأخوان رحباني وفلمون وهبي وغيرهم. الثاني هو العمل الموسيقي البارز المسمّى "راجعون" للرحبانيين، الذي ساهم في بلورة العلاقة بين الكلمة والتعبير الموسيقي وفي إيجاد التوازن بين الصوت المفرد والكورس وبين الأوركسترا. الثالث هو الاهتمام القديم بالرقص الشعبي اللبناني والذي أخذ شكلاً احتفالياً في عام 1957 في حفل زفاف أقيم في أحد القصور وقدم فيه مشهد غنائي تمثيلي راقص للعرس في القرية وعلى أساس تنويعات الدبكة. ثم حدث أن زار لبنان الفنان السوفياتي الكبير ايجور مويسيف على رأس فرقة للرقص الشعبي الروسي، فأشار إلى إمكانات الدبكة التعبيرية والاستعراضية، واهتم بإيفاد بعض المتخصصين بالرقص الشعبي للتزود بالثقافة النظرية والخبرة، مثل وديعة جرار ومروان جرار. ومن المهم أن نلاحظ اقتران نشوء المسرحية الغنائية بتطوير الرقص الشعبي اللبناني، كما سنفصّل في حينه. الرابع هو النقاش المستمر منذ عام 1954 الذي حاول الموسيقيون والنقاد من خلاله الإجابة على السؤال الهام التالي: كيف يمكن تطوير الموسيقى اللبنانية، وما هي آفاق هذا التطور؟! وقد تبيّن أن الطريق الأوركسترالي والسيمفوني للتطور مغلقة في الوقت الحاضر وأن الحلّ هو في الأعمال الغنائية الكبيرة أي الانطلاق من الواقع اللبناني والعربي. وكانت "راجعون" للرحابنة أبلغ إجابة عملية، بينما كانت مسرحية "موسم العز" الإجابة البليغة التالية، وكان ذلك في صيف 1960 في بعلبك. أما ما قبل ذلك فلم يكن شيء ما فيما عدا التراث المسرحي الغنائي المصري المطموس المعالم.

* * *

سألمس الجانب الموسيقي بشكل خاص، لدى تحليل المسرح الغنائي في لبنان، ويحسن بنا أن نلقي نظرة على وضع الموسيقى اللبنانية وخصائصها، من خلال اختبار النماذج الطليعية منها، إذ سوف تساعدنا هذه النظرة على تفهّم موضوعنا.
الصفة الأولى هي أن الفن الشعبي يكوّن الأساس الفني والأساس الفكري لتطور الموسيقى. وإذا قلنا الفن الشعبي فنقصد منطلقه الشامل، أي أن الموسيقى اللبنانية تنهل من مصادر الفن الشعبي الغنية ومحتواها الديمقراطي والإنساني، وتتوجه إلى الإنسان انطلاقاً من الواقع الوطني، ولا نقصد أغاني الريف والدبكة على وجه ضيق ومحدود. مثالنا على ذلك أغنية الحب التي نمت وتطورت على يد الأخوين رحباني. إن الفنان اللبناني يعمل بمعزل شبه مطلق عن الدولة، ونحن نلمح في إنتاجه الطليعي التعبير الإنساني العميق ونتلمس حرارته المتوهجة. ولذا فنحن نشهد - بتحفظ قليل - ظاهرة تكاد تكون فريدة في تاريخ الفن الموسيقي في العالم الرأسمالي، ظاهرة التوجه إلى الإنسان، والتجاوب بإيجابية - قد تكون محدودة - مع السمات المميزة للشرق ولمطامح البشرية بشكل عام، (مع تقديرنا أهمية ظاهرة الموسيقى الوطنية التي نراها في أوروبا في القرن التاسع عشر، وأهمية الفنان المصري الكبير سيد درويش). وأميل إلى أن تاريخ الفن في لبنان سيعترف للأخوين رحباني بهذا الفضل.
الصفة الثانية للموسيقى اللبنانية هي أن تطورها يستمد أصوله من الإمكانات الواقعية وخلال الكفاح بين الاتجاهات الجديدة والقديمة.
ماذا يريد سادة الموسيقى القديمة؟ أن نغلق أعيننا عن العصر، ونمتنع عن الاحتكاك بأعمال الموسيقيين الآخرين في العالم، وأن نختنق بالبشارف والتخت الشرقي والموشّحات الأندلسية الخام والمحنطات. ومن جهة ثانية يريد بعض الأشخاص أن تكون العفوية هي قانون التطور الموسيقي انسجاماً مع عفوية الفن الشعبي وعفوية الأغنية الشعبية. وهذا يعني الفوضى والتصوير الفوتوغرافي وإساءة فهم الفن الشعبي وإمكاناته. وقد كانت نتيجة هذا الكفاح حتى الآن انتصار الأصالة والذوق والعلم الموسيقي وفشل أعمال غنائية من طراز "نهر الوفا" و"الشلال".
الصفة الثالثة هي أن الموسيقى اللبنانية تتطور على أسس الفن الغنائي. إذْ لم تظهر على المسرح العام للموسيقى أعمال فنية بارزة مستقلة عن الصوت البشري. كأن الفنان يحس بأنه لا يمكن القفز فوق المراحل، وأن الفن الغنائي لم يستنفد إمكاناته التعبيرية، وأن مرحلة التجريد السيمفوني لم تحن بعد. وهذا صحيح لأن تقاليدنا السمفونية متدنّية إلى حد الصفر، وعلى الأقل ما تزال تنقصنا تقاليد تأليف الأوركسترات والعزف والقيادة. وفي بيان رسمي نشر مؤخراً عن وزارة التربية نفهم أننا سنتملك فرقة سيمفونية في عام 1974!(*) .
ويمكننا إضافة ملاحظة أخرى بهذا الشأن، وهي أن اتجاه التطريب والمبالغة في الشكلية وتطريز الصوت البشري قد تضاءل إلى حد ملموس. وأصبح واضحاً أن المسرحيات الغنائية تحتاج بالدرجة الأولى إلى الأصوات المثقفة المعبرة، وليس إلى الأصوات الرنانة مهما كانت جميلة ومشهورة.

* * *

لنعد إلى المسرح الغنائي الرحباني، وينبغي أن أنوه منذ الآن بخاصية إيجابية تلتصق به؛ منذ نشوئه حتى توصله إلى التماسك وإثبات الوجود على مستواه التاريخي وعلى مستوى القيمة الفنية. هذه الخاصية تجعل من المسرح الغنائي اللبناني مسرحاً أصيلاً وظاهرة فريدة كما أسلفنا. فهو يستقى من الفني الشعبي ومن أفضل تقاليده، وهو - بالضرورة إذن - إنساني، جوهره دعوة إلى الجمال والخير. نجده أحياناً يفسّر المعتقدات الشعبية المأثورة تفسيراً واقعياً مقدوداً من معدن الشعر، مثل تفسير حكايا الجن في مسرحية "جسر القمر". وهو يصور نهم الناس إلى المعرفة وكشف غوامض الطبيعة وأسرارها. ويسخر من تفاهة الروح العسكرية ويعالج علاقات اجتماعية معقدة ويحلها لصالح المظلومين كما في "دواليب الهوا". وبكلمة فهو مسرح غنائي شعري، ولكنه قبل كل شيء واقعي.
على أن بعض أمراض الطفولة شابت بعض الأعمال الأولى. العواطف البدائية، والانفعالات غير المعقولة، والمبالغات الميلودرامية والهزلية، وهناك أيضاً الحول الرومانسية لبعض العلاقات الاجتماعية، وظاهرة ترك ذوي النفوس الشريرة والعابثين دون عقاب رادع، كما حدث لفهد العابور الإقطاعي في "دواليب الهوا" وعيد وفضلو في "بياع الخواتم".


* * *

الآن ننصرف إلى تحليل فني للمسرح الغنائي اللبناني، فندرس القضايا الفنية والموسيقية التي واجهته، وكيفية حلها.
سبق وشرحت - بصورة مختصرة - أن المسرح الغنائي في لبنان يستمد إلهامه ويستمد أصوله من الفني الشعبي، الفولكلور. غير أنه من الخطأ الجسيم أن نعتبر المسرحيات الغنائية نفسها فولكلوراً، لمجرد أن حوادثها تدور في الضيعة ولمجرد أن أهل الضيعة يدبكون، وأن الجو العام مستوحى من الفولكلور. إن المسرح الغنائي لا يقدم لنا مادة فولكلورية، فما يميز المادة الفولكلورية أن تكون متداولة وأن تكون تراثية، وهذا هو المحك لاختبار المواد الفولكلورية. هذه المواد - كما يقول الكاتب المصري فوزي العنتيل في كتابه "ما هو الفولكلور" - هي جميع مواد الثقافة المأثورة أو الأساليب المتعارف عليها للفكر والممارسات الإنسانية. هذه المواد قد ابتدعت بصورة عفوية في مجموعة من الأشخاص كشيء خاص بهم، من أجل استخدامهم هم، غير أنها نالت تقبلاً عريضاً كافياً لن تكتسب خصائص تراثية، كالجهل بالمؤلف مثلاً. وعلى هذا لا يمكن أن يسمى إنتاج فني ما إنتاجاً فولكلورياً فور الانتهاء منه. وكذلك المسرحيات الغنائية: إنها غير عفوية، لأنها نتيجة جهد فني ووعي يستلزم احتياجات ثقافية وعلمية وقابليات ذات مستوى عال على الخلق والإبداع. نستطيع أن نقول فقط إنها تستلهم الفولكلور. وإنها غير بعيدة عن المناخ الفولكلوري. حتى الدبكات التي يؤديها الراقصون والراقصات عمل غير فولكلوري، لأنها حركات مأخوذة من مصادر فولكلورية، ولكنها مرسومة ومصممة عن تصور سابق، وما زالت تفتقر إلى خواص المادة الفولكلورية.

* * *

إن أخطر قضايا المسرح الغنائي هي قضية الحوار، ولا نعني بالحوار الكلام أو الشعر، كما لا نعني به النغم الذي تنسكب فيه الكلمات، بل نعنيهما كليهما، مضافاً إليهما الإحساس بطبيعة اللحظة المسرحية التي يفرضها المشهد والمصاحبة الأوركسترالية. وهذا طبيعي وضروري إذا أردنا من العمل الغنائي أن يعكس موضوعاً ويؤثر فنياً في المُشاهد. فليس من السهل خلق التوتر الفني الحقيقي في المُشاهد وجعله ينجذب إلى تيارات المسرح الخفية بالوسائل الموسيقية التي توصلنا إليها، إذا توافرت لدى الفنان الأصالة والحساسية.
إذن عبر الحوار الغنائي - بشكل رئيسي - يمكن إحداث ذلك التوتر والانجذاب. والفشل في هذه المهمة يعني تحويل العمل إلى سلسلة من المشاهد الغنائية المفتقرة إلى الوحدة الفنية والتي لا تنتمي إلى المسرح الغنائي. أي إلى عمل فاشل مهما كان جمال الألحان ومهما كان المحتوى. يمكن أن نحصر أشكل الحوار بثلاثة، هي: الحوار الموقّع، ذو الإيقاع الظاهر، والحوار الغنائي الحر، أو ما يسمى بالـRecitatif. ثمّ الحوار غير الملحَّن. وقد أدرجناه حواراً غنائياً لسبب نذكره في حينه.
الشكل الأول يكاد يكون الأكثر أهمية واستعمالاً. فالإيقاع ضرورة للألحان المتوترة وضرورة لمشاهد التناقض واللقاء الجماعي. وما يهمنا من عناصر هذا الحوار هو الإيقاع نفسه، فله دور هام في تطوير المشهد ودفعه إلى قمة شعورية معينة. وإذا كان من نقصٍ فنّي في حوار المسرحية الغنائية اللبنانية في الوقت الحاضر، فإن أحد مصادر هذا النقص رتابة الإيقاع وحصره في وزن 4/2. نحن لا ننكر أن الأخوين رحباني قط طورا هذا الإيقاع إلى درجة سامية من الجمال والتعبير، ومنذ تأليف "جسر القمر"، نذكر مثلاً مشهد اصطدام أهل القاطع بضيعة جسر القمر في التنازع على الماء. غير أننا نظن أنه حان الوقت لوضع قضية الإيقاع وتنويعه على بساط البحث والنقاش، فليس في صالح موسيقانا أي جمود مبالغ فيه.
لنأخذ مثلاً الإيقاع 4/3، إيقاع الفالس الغربي ومشتقاته من الأوزان الثلاثية مثل 8/3 و8/6. هذه الإيقاعات موجودة فعلاً في البشارف القديمة وفي القطع المنسوبة للموسيقى الشرقية، لماذا لا تُستعمل في الحدود الفنية والتعبيرية بحيث لا يفقد اللحن العربي صفاته وخصائصه؟ إن ارتباط الفنان بالطابع الوطني وأصالته ضمانتان تحميانه من الانزلاق إلى الألحان الغربية والتراكيب غير العربية. ثم هل استنفدت جميع إمكانات الإيقاعات المعقدة التي تمتاز بها الموشحات الأندلسية، وهل نستطيع أن نفيد منها بشكل ما؟ هذه قضية للدرس والتجريب، وحدود التطوير مرسومة بدقة بالغة الحساسية بشعور كبير بالمسؤولية الفنية.
والشكل الثاني هو الحوار الغنائي الحر الذي لا يلتزم بالإيقاع الظاهر، والذي نسمعه عادة في مشاهد المونولوج والديالوج المشحونة بالعاطفة والمواقف المتميزة بالروح الخطابية. نحن نتفق مع الأخوين رحباني على أن الموال اللبناني الشعبي وصيغه المختلفة هو أساس الغناء الحرّ، أساس صحيح للانطلاق منه وتطويره. ولكن الاكتفاء بها تقييد خاطئ. وتطوير هذا الشكل حاجة ملحّة حقاً. وما لا يوافق عليه بالتحديد هو ترك الغناء الحرّ دون مصاحبة أوركسترالية متوازنة مع الغناء ومدروسة. فلا يجوز أن يترك بعض الأعضاء الأوركسترا - وبخاصة لاعبو الكمنجات الذين تربّوا في أحضان التخت الشرقي والارتجال - يزعجون النص بسخافات المصاحبة الميلودية الفوضوية النشاز مضيّعين بذلك جهود الفنان. وفي هذا الاتجاه فقط - وبصورة موقتة - اتجاه المصاحبة الاوركسترالية الجدية للغناء الحر، يمكن تطوير الغناء الحرّ، بدل أن تلزم الأوركسترا قرار السلَّم بصورة رتيبة مملة.
الشكل الثالث للحوار سنناقشه رغم استقلاله عن الموسيقى والحوار التمثيلي والمونولوج الكلامي. والسبب الأهم لإدراجه متعلق بالشكل الذي تتخذه الأعمال الغنائية الكبيرة في لبنان. فمن المعروف أن هذا الشكل يختلف اختلافاً بعيداً عن الأوبريت الغربية بحيث يصعب وصف المسرحية الغنائية بالأوبريت الغربية لأن هذه الأخيرة عادة خفيفة الموضوع منفصلة عن الزمن في الغالب. ويكفي أن نذكّر بالمحتوى الجدي والإنساني الذي تعالجه المسرحية الغنائية اللبنانية حتى يبين الفرق بين المفهومين. أول ما يتميّز به هذا الحوار أنه شعر عامي رفيع وفني. ومن هذه الميزة بالذات تنبثق طريقة أدائه الخطابية الفخمة التي تغلب عليه النبرة المسرحية. وبسبب هذه الميزة بالذات نتحدث عنه على أنه غنائي ما دام شعراً جيداً ولا يؤدّى مثل كلام اعتيادي. وقد يكون للفنان أعذاره في عدم تلحين هذه المقاطع، ربما بسبب استعصائها على النغم، وربما بقصد التنويع. فإذا قبلنا وجود هذا المونولوج الشعري أو هذا الحوار الشعري - وقد لا نقبله، لأنه أحياناً يذكّر بمسرحيات التلاميذ الهواة وبخاصة إذا كان الممثل ضعيفاً متهيّباً - نقول إذا قبلنا هذا الحوار، فإنه قد يبدو أكثر قوة وتأثيراً لو صاحبته موسيقى تصويرية Incidental ملائمة ومعبّرة بحيث يتوافر توازن خفي بين طبيعة الإلقاء الشعري وبين الموقف المسرحي. بل يبدو الإلقاء الشعري أكثر امتداداً في الجمال وأكثر إقناعاً بضرورته إذا ما تثنت مع موجاته نغمات كمان مشدود الأنفاس أو زقزقات ناي طروب، أو خطوات بوق حزين جاد، أو حتى ضربات الطبول المنفردة (تيمباني) في لحظة موت ويأس. بإمكاننا من هذه الزاوية تصوّر آفاق جديدة رحبة من القدرة على التعبير تنتظر الحوار التمثيلي المستند إلى مصاحبة اوركسترالية أو مفردة، ومن هذه الزاوية أيضاً يمكننا اكتشاف منابع جديدة لتوسيع دائرة التعبير في الأعمال الغنائية الكبيرة. ويتبين لنا أيضاً أن دور الأوركسترا بالغ الحيوية والأهمية، بحيث لا يمكن للموسيقى العربية أن تتطور إلا بتطور الأوركسترا وبفهم العلاقة الحميمة بينها وبين الغناء، وما أصعبها مهمة!

* * *

القضية الثانية من قضايا المسرح الغنائي هي التوازن بين المسرح والموسيقى. فالمسرحية الغنائية تكتب منذ البداية على أنها ستلحن، ويدور تعاون غير اعتيادي بين كاتب المسرحية وبين ملحّنها. وبالضبط أقصد ما يلي: بمجرد أن تدخل الموسيقى بعداً فنياً جديداً في العمل المسرحي، تطرأ في الحال قضية بالغة التعقيد هي قضية التوازن بين الموسيقى والمسرح. فطغيان البعد الموسيقي يجعل العمل غير مسرحي وأقرب إلى اللوحات الموسيقية غير الموحدة. وطغيان البعد المسرحي قد ينفي صفة المسرحية الغنائية ويتحول العمل إلى عمل مسرحي تلعب فيه الموسيقى دوراً ثانوياً مساعداً. لنقدم بعض الأمثلة.
"جسر القمر" عمل غير متوازن، والميزان يميل لصالح الموسيقى. هذا عمل غنائي منفوش موسيقياً، في حين كانت عملية بناء الشخصيات المسرحية ضعيفة. ومن العسير العثور على مقوّمات معيّنة تجعل من دور الصبية المسحورة مثلاً دوراً مسرحياً قائماً بذاته ومتوازناً مع بقية الأدوار. بل يمكن القول باطمئنان أن الميزات الصوتية لنصري شمس الدين أو فيروز هي التي فرضت اتجاهاً خاصاً في التلحين، وليس الطابع العام للشخصية الذي نحن بصدده. ونحن لا نقصد انعدام البعد المسرحي بل ضعفه بالنسبة للموسيقى.
مثل آخر. "الليل والقنديل" عمل غير متوازن والميزان يميل لصالح المسرح. والواقع أن "الليل والقنديل" أتت احتجاجاً على "جسر القمر" ورد فعل لها، والمشكلة التي تعالجها أقرب إلى أن تكون مشكلة مسرحية ذهنية رمزية منها إلى عقدة مسرحية غنائية، هي مشكلة الصراع بني الحب والشر. ولم تكن الضيعة بفلاحيها ودبكاتها سوى إطار غائم وخلفية مبهمة الشطآن للمشكلة. على أن اختلال التوازن في "الليل والقنديل" لا يعود بشكل حاسم إلى الموضوع المطروح، بل إلى المعالجة المسرحية الصرف التي عولج بها الموضوع. إذْ نرى حدوداً مسرحية صارمة وتطوراً شعورياً ملموساً ومواقف اختيار هامة، بخاصة لدى "هَوْلو" و"منتورة" و"خاطر". وترى انعكاسات الصراع بين الحب والشر تتموج في الشخصيات الثانوية أيضاً، بينما نرى الموسيقى تلهث وراء المسرح غير قادرة على تحقيق وجودها عنصراً درامياً مساوياً. بل نرى مشهداً كاملاً يمكن إرجاع أصوله إلى المسرح اللامعقول الحديث. الفتاة منتورة تسأل نصري الحارس عن حكاية هَوْلو وتمرّده فيقص عليها ممهدات هذا التمرد، وكيف أن هولو وصديقه خاطر قطعا طريق عاطف، فيظهر عاطف على المسرح ليتم القصة، عوضاً عن أن يتمها نصر الحارس، ويشرح عاطف عمل هَوْلو، فيظهر هَوْلو على المسرح ليروي الحكاية من وجهة نظره. وهنا يستشهد عاطف بعبدو وسليمان وذيبة على كذب هَوْلو، فيظهر هؤلاء الثلاثة على المسرح ليشهدوا بصدق عاطف، كل ذلك دون تدخل من نصري الحارس أو منتورة، ثم يخرج الجميع ليبقى الحارس ومنتورة يتمان حديثهما. لقد قصد الرحابنة بهذا المشهد وبالجهد المسرحي تكثيف البعد المسرحي، وهكذا اختل التوازن المطلوب في "الليل والقنديل" بين المسرح والموسيقى.
مثل ثالث. "بيّاع الخواتم" عمل يمكن وصفه بأنه يحقق توازناً معقولاً بين المسرح والموسيقى. ومن المؤكد أن الأخوين رحباني بعد هاتين التجربتين، أدركا الكثير من قوانين التوازن. وكان الشكل المادي لتحقق هذا التوازن في "بياع الخواتم" هو التكون الموسيقي للشخصية المسرحية، الحدود الموسيقية المرسومة بدقة للأبطال، الطابع الموسيقي الثابت لكل شخصية. المختار، هذا الفشّار الحالم بالبطولة تطابق شخصيته الموسيقية حضوره الموسيقي، شخص معتد بنفسه ثم ينهار جبناً لدى اكتشاف أكاذيبه. وراجح الذي تتجاذب شخصيته تخوم الخرافة والواقع يفرض نفسه منذ أن يفاجئنا بلحنه القوي الذي يضفي عليه صفة المسافر الهائم الذي لا يهدأ وراء أمر يشغله، لحن "طيري يا رفوف الدرُّج" إلى أن نكشف حقيقته الطيبة في الختام. ونلاحظ في ألحانه القوة والجدية وأردية الحب التي يُلبسها للطبيعة والأشياء والالتصاق بها. والشاويش يفرض وجوده موسيقياً بشخصيته الفكهة المشبعة بتفاهة الروح العسكرية. ونجاح دور الشاويش له دلالته بالنسبة للأخوين رحباني، فالألحان الفكهة الهزلية، والألحان البعيدة أصعب بكثير من الألحان الجديّة والألحان المتوترة المثقلة بالحزن أو الغضب. نلاحظ في دور الشاويش التشكل الموسيقي والوحدة النغمية، هناك لحن واحد ذو نوعية معينة يعلن ظهور الشاويش أو تعلنه صفيرته. وريما تمثل الفتاة التي يتجاذبها شعوران: الشفقة على خالها المختار والضيق بالكذب، وحينما يقفز راجح من إطار الصورة الخرافية إلى أرض الواقع ينتابها شعور الدهشة الخائفة المذعورة كما تعبّر عنه اللحظات الموسيقية الرائعة لدى لقائها الأول براجح. بقي دور عيد وفضلو، وهما أيضاً يملكان كيانهما الموسيقي الذي يعكس شيطنتهما واكتشافهما أكاذيب المختار واستغلالهما لها عكساً رائعاً في ديالوجهما الأول، وفي المشهد الختامي حين نستمع إلى الأبواق الساخرة تعلن حضورهما ليرويا الكذبة التي فضحتهما، وإلى لحنهما القوي الذي يؤديانه في تلك اللحظة. هذا ما قصدته بتوازن "بياع الخواتم".

* * *

القضية الثالثة من قضايا المسرح الغنائي اللبناني هي قضية الوحدة الفنية. والأخوان رحباني يسيئان لهذه الوحدة بثلاث طرق رئيسية. الأولى هي تضخيم دور المهمة الاستعراضية، إلى مستوى يفوق ما تتحمله وحدة المسرحية العضوية، وفرض الازدواجية على أدوار الأبطال. فالبطل يقوم بدور مزدوج: الدور المسرحي ودور المطرب الاستعراضي في مصاحبة الدبكات والأغنيات المفردة. إ، المبالغة في الاستعراض خطرة جداً ويبدو أن السبب في هذه المبالغة يكمن في جذور نشأة فن المسرحية الغنائية. فقد كان دافع تطوير الدبكة والرقص الشعبي بشكل عام وعرض المجموعات الراقصة في البداية غاية لا وسيلة، بينما كانت القصة أو الحوادث وسيلة وإطاراً للاستعراض. فمثلاً فهد العابور، أحد أبطال "دواليب الهوا"، إقطاعي شرس يتآمر على إنتاج الضيعة من قصب السكر، وفجأة نراه يغني في سهرة الضيعة كأحد أبنائها والفلاحون يرقصون ويدبكون على أنغام أغنيته المرحة الحماسية. والصبية المسحورة في "جسر القمر" التي لا تظهر إلا بجهود ضرّيب المندل وبخوره نراها فجأة في سهرة الضيعة وقد نفضت عنها السحر لتشارك أهل الضيعة سهرتم وتغنيهم "جايبلي سلام"!! لذا كان من الضروري أن تدور كل مواضيع المسرحيات الغنائية في الضيعة، وإلا فمن أي يأتون بمبررات الدبكة؟
الظاهرة الغريبة في مسرحيات الأخوين رحباني الغنائية هي الصفة المتوسطة للشخصيات الرئيسية تقابلها صفة السمو والقوة الموسيقية لشخصيات الصف الثاني. والمدهش حقاً أن مستوى الشخصيات الرئيسية يرتفع ويشع بالجمال بقدر احتكاكها بالشخصيات التي تليها أهمية وبقدر اقترابها من مركز الوحدة الفنية، وهكذا تلتزم الشخصيات الثانوية دورها وتلتزم جواً نغمياً ثابتاً خاصاً بها، بينما تنفصم شخوص الأبطال وتفقد تماسكها.
الطريقة الثانية للإساءة للوحدة الفنية هي إشراك ملحنين أو ثلاثة أو أربعة ملحنين أحياناً في كتابة الموسيقى وألحان الأغاني الاستعراضية. وهذا يدل على أنه لم يُنظر للوحدة الفنية على أنها ذات أهمية حيوية، وعلى أن الفن الاستعراضي كان أكثر قيمة في بعض الأحيان من خصائص الشخصيات المسرحية وتسلسل الحركة المسرحية.
الطريقة الثالثة للإساءة للوحدة الفنية هي فرض أصوات غنائية معيّنة على الملحن من قبل الهيئات الرسمية، أو اختيار أصوات غير ملائمة من قبل الملحن نفسه. من المهم إدراك هذا الشيء الجوهري: الطرب شيء والأداء المسرحي شيء آخر، فالهرقلية الصوتية لدى وديع الصافي لا تسهم في تكوين شخصية درامية في مسرحية غنائية. لنبحث هذه القضية بشيء من التفصيل. يذكر كثير منا دور الفتاة "حلا" في دواليب الهوا والذي غنته صباح. المغنية صباح ذات صوت جميل وشخصية مميزة. ولكن صوتها لا يصلح للأداء المسرحي، لأنه مشبع بتراث معيّن أكسبه صفات نوعية معينة تجعله غير قادر على الالتزام بالنص الموسيقي والإخلاص لرغبة الملحن الصادرة عن حاجة تعبيرية. لم تستطع صباح خلق التوازن بينها وبين المجموعة الغنائية، وبينها وبين الأوركسترا، بسبب ارتفاع صوتها وقوته غير العادية ونوعيته الخشنة غير المريحة في الطبقات العليا. وعلى أن المشكلة الحقيقية ليست هنا، فنحن نزعم أن نصوص دور "حلا" الموسيقية إنما كتبت في ضوء خصائص صباح وليس لشخصية "حلا" المسرحية. هذا خطأ، لأن هذا الاتجاه يحد من تعبيرية الملحن ويسجنه في شروط مفروضة سلفاً، ولأن على الملحن أن يكتب نصوصه بالانطلاق من القيمة التعبيرية للكلمة والجو العام للمسرحية ومن تكوين الشخصية المسرحية، بحيث يمكن خلق تشخيص موسيقي ما وخلق الوحدة الفنية الضرورية للعمل المسرحي الغنائي.
بقيت مسألة صغيرة متصلة بالوحدة الفنية للمسرحية، هي مسألة نهايات المسرحيات الغنائية.. خاتماتها. إن الوحدة الفنية تزداد تماسكاً لدى خاتمة مدروسة تركز على رموز المسرحية أو محتواها أو على معنى مهم من معانيها. من هذه الناحية نعتبر نهاية "موسم العز" فاشلة، فالكورس الختامي يتحدث عن جمال لبنان وحب الوطن وما أشبه مما لم يكن له علاقة بالعمل بتاتاً. وكورس الخاتمة في "جسر القمر" يغني للضيعة الباقية في البال وعن سماء الوطن وجبله. نهايات من هذا النوع تبعد المشاهد عن جو المسرحية التي شاهدها، وتدفع بمضامينها عن وعيه، كما تهدم في ذهنه التوهّم المسرحي. غير أن الأمر يختلف في مسرحية مثل "بياع الخواتم". إن نهايتها أجمل النهايات على الإطلاق.
ومع أن الصوت المفرد يعود فيذكرنا بأن ما شاهدناه غير صحيح، ويكرر ما غناه الصوت نفسه في البداية، مع ذلك فكأن الفنان جعل هذا الوصل للبداية بالنهاية مقصوداً لتركيز الرمز الشعري الفني للمسرحية وترسيخه في الأذهان ولتقوية واقعيته، على غناء الكورس وتماوجات الصوت المفرد الهابطة إلى القرار. وبذلك تظهر "بياع الخواتم" عملاً موحداً يشع بالجمال والإيحاء والتوازن.
هذه هي أهم قضايا المسرح الغنائي الفنية، والتي ما يزال يعمل جاهداً على حلها للوصول إلى الكمال الفني الرفيع. ناقشناها لا للحط من قيمته، بل بالضبط للاعتراف بوجوده الراسخ وقيمته الكبيرة ولتمجيده. وما زال مسرحنا على كل حال في البداية، وهو يعد بأطيب الثمار.

[مجلة "الطريق": أيار - حزيران / مايو - يونيو 1966]