Articles | Articles | Contents
Tributes | Files | Interactive | Lists | Special

This article appears in the 'About The Lebanese Arabic Music and The Musical Rahbani Theater' By Nizar Morrowa.



عن الأغنية الرحبانية

هذه المقالة التي تميّز بتحديداتها النظرية والذوقية الواضحة، والتي اتخذت في قسم منها شكل سؤال وجواب، زيادة في الإيضاح والتدقيق... وجدناها بين مخطوطات نزار، ولا ندري إذا كانت نُشرت أصلاً، ولا نزار أشار إلي تاريخ كتابتها... ولكنه، إذْ يورد في مقالته هذه أنه "... منذ عشرين عاماً سمعنا مسرحية (بياع الخواتم) أولى الحوارات الغنائية التعبيرية.." وإذْ نعلم أن "بياع الخواتم" إنما عرضت خلال العام 1964،.. لتحصِّل لنا أن هذه المقالة كتبت في العام 1984 - (المحرر)

دون انتقاص من قيمة الفنانين الذين كانوا ينتجون في الميدان الغنائي في لبنان في أوائل الخمسينات أو من مواهبهم، نستطيع القول باطمئنان: إن الأغنية الرحبانية (نسبة إلى عاصي ومنصور) ظهرت منذ بداياتها الأولى متميّزة ومختلفة عن السائد في الفن الغنائي آنذاك. فربما لأول مرة تنشأ أغنية تؤكد على وحدة فنية متقنة بين النصّ واللحن على هذه الصورة، ولأول مرة يقوم توازنٌ ما بين هذين العنصرين بهذا الشكل.

ربّما لم يكن ثمة وعي بتلك الوحدة أو هذا التوازن، أو لم يكن في قصد الأخوين رحباني ونواياهما الفنية تحقيق تلك الوحدة وهذا التوازن. لكن الموقف من طريقة كتابة النص الشعري ومن طريقة التلحين قد أخذ بيد الأخوين رحباني إليها بصورة عفوية وطبيعية، ليحققا أغنية حديثة بأكثر من معنى، وتنطوي على الكثير من الطرافة والتعبيرية والتكامل.

بمعنى آخر: ثمة عصر جديد يتطلب لغة فنية مبتكرة وفناناً يرى إلى آفاق لم تكن مرئية من قبل لسبب بسيط هو أنه لا يمكن استباق الزمن في الغالب، وتأتي الحركة الفنية بصورة طبيعية ومنطقية، تولد دون اصطناع أو تزييف.

فبدلاً من نصٍّ سبق أن استُهلكت معانيه وتكررت صوره ومجازاته، نصٍّ ساكن وتقريري ومعلَّق في الفراغ، يختلف نصُّ الأغنية الرحبانية بمزيد من التعمّق في الحالات البشرية وبتنوّع واضح في المواقف الإنسانية. ثمة شفافية جديدة والمباشرة في التوصيل، وتوجُّه شعري منعش في صياغة الصور والمجازات، هي جديرة بأن تكون من إبداع شاعر، ثمة عناصر تقصُّ وتروي، بل لعله يصح القول بأن بعض نصوص الأغنية الرحبانية هو أكثر من غنائي (Lyric)، وينطوي إلى هذا الحد أو ذاك على بذور درامية، فنتلمّس من خلالها الحالة والموقف في وجود محسوس، وفي مكان وزمان بشريين ملموسين (أغنية "راجعة" مثلاً).

وكأنما استقر في وعي عاص ومنصور - أو في لاوعيهما - أن هذا التوجّه الشعري في كتابة كلمات أغنيتهما يفترض توجهاً موسيقياً جديداً آخر غير الإتكاء المطلق تقريباً على الصياغة المصرية للأغنية، سواء من حيث بناؤها أم من حيث نبرتها اللحنية. فإذا كانت الأغنية المصرية الفنيّة شبه مطلقة السيادة آنذاك عن جدارة واستحقاق، وإذا كان التحرر من هذا المثل الفنّي الأعلى أمراً بالغ الصعوبة، فلا أقلّ من مزج الصياغة المصرية بطابع لبناني خاص وغير مسبوق، وبرؤية تستوحي الشروط الروحية المحليّة. وهذا ما حققه الرحبانيان بالفعل في بداية الخطوات الأولى لظهورهما الغنائي: أغنية عربية في أساسها، على مزيد من نكهة لبنانية خاصة يُميزها عن السائد من الغناء دون تردّد. ولعل في هذه الخصوصية ما يفسر انتشار الأغنية الرحبانية في أرجاء العالم العربي انتشاراً مصحوباً بالحب والإعجاب. وبالطبع لا ننسى هنا أبداً ما أحاطه العالم العربي من حب وإعجاب بالصوت الذي أدى الأغنية الرحبانية وساهم في تجسيدها حقيقة فنية فعليّة مترعة بالحداثة، ونعني صوت السيدة فيروز. فقد كان هذا الصوت البعد الثالث الذي ميَّز الأغنية الرحبانية عن سائر الأنواع الغنائية التي توافرت في ذلك الوقت.

من أين أتى هذا الطابع اللبناني، أو هذه النكهة اللبنانية؟

- توجد منابع عديدة لهذا الطابع اللبناني. أعتقد أن أحدها هو تشبّع عاصي ومنصور بالمناخات المحلية - الشعبية الوجدانية والثقافية - حتى الامتلاء. إنه الجلد الذي لا يستطيع المرء أن يخرج منه. لذا كان من المستحيل على المُثُل الفنية الجاهزة إلا أن تمر عبر مصفاة هذه المناخات المحلية الغنية. في هذه المناخات تتدخّل بالطبع عناصر الموسيقى الشعبية اللبنانية، والموسيقى الكنسية التي هي بدورها تتنفّس الطابع المحلي مثلما هي تراث شرقي مؤسس على المقامات العربية الأصيلة. إن أغنية "حاجي تعاتبني" لا يمكن أن تكون صنيع ملحن مصري أبداً، مهما عدّدنا وأحصينا فيها من المؤثّرات المصرية. بل ربما يوجد من يقول إنها أغنية لبنانية صافية.

ذكرت أن الأغنية الرحبانية ذات نكهة لبنانية، ثم قلت إنها تستمد من الموسيقى الشعبية اللبنانية. هل يوجد فرق بين الفكرتين؟

- بالطبع، يوجد فرق كبير. الموسيقى الشعبية اللبنانية موجودة قبل الرحابنة وقبل غيرهما، وهي مصدر إلهام لمن يشاء، وهكذا كانت بالنسبة لكثير من الملحّنين اللبنانيين. إذن لم يخترع عاص ومنصور البارود في هذا الإطار. لكن النكهة اللبنانية، أو الطابع اللبناني المميّز على الأصح، هي طريقة شخصية في تمثُّلِ العناصر النغمية المتوافرة وصياغتها على هذه الصورة التي أسمّيها شخصية. وبالتالي فالطابع اللبناني هو إبداع خاص يميّز الأغنية الرحبانية.

هذا عن البدايات. كيف تطورت الأغنية الرحبانية؟

- يصعب في هذا العرض السريع الإجابة عن مثل هذا السؤال الواسع. فقد تفترض هذه الإجابة تناول ما يكثر عنه الحديث من إيجابيات ذلك التطور وسلبياته، وقد تفترض أيضاً علاقته بما استجد من تطور في الحياة الموسيقية اللبنانية والعربية منذ الخمسينات. يكفي القول الآن: إن الأغنية الرحبانية تطورت وتقدمت على خطٍّ صاعد، ويجب أن توصف هكذا. فإن هذا الخط سوف يوصل الرحبانيين إلى مغناة "راجعون"، وهي محطة مهمة في المسيرة الرحبانية، كذلك سوف يوصلهما هذا الخط الصاعد إلى المسرح الغنائي الرحباني، مع ما في هذا المسرح من قفزات وتعرّجات، ومن دلالات تقنية وفكرية (إن لام نِقلْ إيديولوجية). على مستوى التفاصيل التقنية أُذكّر فقط بأنه منذ عشرين سنة سمعنا في "بياع الخواتم" أولى الحوارت الغنائية التعبيرية، وربما هي من أجمل اللحظات الغنائية في الموسيقى اللبنانية التي ظهرت في حدود تلك الفترة.

إن مسيرة الأغنية الرحبانية هي جزء من مسيرة الحداثة في الموسيقى العربية. هذه الحداثة كما بيَّنا لا يمكن أن تنحصر في التوزيع الآلي، وقد لا يكون شرطاً لها، وقد تكتفي منه بحدٍّ أدنى يستمد جماليته من وظيفته التعبيرية التي تتجاوز التزيين أو القول الفارغ. هنا أيضاً أذكِّر بأغنية لحّنها الرحبانيان منذ أكثر من عشرين سنة هي "مين قال حاكَيْتو وحاكاني". نلاحظ أن دور الآلات الموسيقية يأخذ خطّاً مستقلاً غالباً، فلا يقتصر على ملء الفراغ الزماني الفاصل بين المقاطع الغنائية، أو على ترديد اللحن ذاته الذي تغنّيه فيروز. أما حصيلة هذه الوسيلة التقنية فكانت إبراز المحتوى الشعوري للنص الشعري وتقويته إلى الحد الأقصى، إضافة إلى قيمتها الجمالية الكبيرة.

كل هذه الإنجازات الراقية التي قدمتها الأغنية الرحبانية على مستوى الوسائل التقنية "المعقّدة" نوعاً ما، لم تمنعها من أن تكون أغنية شعبية توفّر المتعة الفنية الراقية أيضاً لملايين الناس في لبنان وخارجه. وتساهم في رفع مستوى الذوق العام إلى درجات لم يكن بالإمكان التوصّل إليها لولاها.

(1984)